
بدون ألوان
بقلم: حمدي صلاح الدين
“عام جديد ”
مشهد أول “عام سعيد ”
التحايا لأهلي وأصدقائي وجيراني ولكل السودان أينما حط بنا وبهم وبكم رحال الحرب والنزوح والتشرد، أعلم أن هناك قطعة من أسى داخل جوف كثيرين من فقد عزيز ومن فقد ماله ومن فقد دياره ومن يتحرك بلا هدى ولا أمل فهم جميعا عبادك يا الله نسألك التخفيف عنهم ومجازاتهم خيرا وفيرا بعد صبرهم على الفقد والألم والنزوح والمشقة والمعاناة.
أمنيات العودة الآمنة للجميع إلى الديار، نسأل الله أن يعيد الطمأنينة المنزوعة والأمن المفقود والسلم المسلوب
ويجمع بين الناس من جديد.
مشهد ثاني “جدار التماسك”
والناس بين فقد ونزوح وتعب ومشقة، أكثر ما آلمني خلال جولة الستين يوما داخل السودان بعد اندلاع الح-رب أنني في أحايين كثيرة لم أستطع النظر إلى عيني محدثي مرتين مخافة أن ينهار جدار التماسك الذي كان يلف المكان. كانت النظرات نحو مستقبل مجهول والهالات السوداء تحيط العيون من الإرهاق وعدم النوم وقلة الحيلة فاللهم لطفا بنا وبهم .
مشهد ثالث “الدفار”
لازال في ذهني منذ مايو 2023م مشهد النسوة يلتحفن أرضية الدفار رابع أيام عيد الفطر المبارك، يقيهن من هجير الح-رب والشمس والارتحال القسري “توب” ثبت على أركان الدفار الأربعة. كن يسافرن وسط نهار قائظ تاركات ما ثقل حمله ممسكات بما خف حمله خائفات من ارتكازات الدعامة في طريق مدني مشهد يهز الوجدان لم يخرج من أثقال بواطن الخرطوم طوال العصر الحديث.
والتوب الممدود على أركان الدفار فشل في ستر عورة الح-رب والشمس والارتحال القسري ففاجأت إحداهن آلام المخاض قبل الوصول إلى مدني فانزلت في قرية وسط الطريق ونزل معها رفقاء الح-رب والهجير والتوب الممدود وقامت القرية بالواجب إلى بقية القصة .
مشهد رابع “طلابي والحرب”
كلي أسى وأسف ومرارة حيث في عدد من جامعات بلادي لم يعد للدرس” قاعة” ولم يعد للواجب “كاتب” و لم يعد للحضور “قائمة” ولم يعد لمكتبات الجامعات “زائر”. إنها لعنة الح-رب.
إننا نمتلئ “أسى” و”حزن” و”قلة حيلة” على آمال وأحلام الصغار في مستقبل زاهر ومشرق دمرته الحرب إن لم تكاد تفعل .
أنظر بأسى وألم كبيرين إلى ماضي ليس ببعيد وطلابي وطالباتي في عدد من الجامعات السودانية بالخرطوم يمتلأون حيوية ونشاط وهم يصدرون صحفهم الإلكترونية باللغة الإنجليزية وآخرون في كليات أخرى بدأوا الإعداد لتمثيل رواية الأديب الإنجليزي وليام شكسبير الشهيرة “تاجر البندقية ” وكيف عملت لجنة النص المكونة من الطلاب على تنزيل النص الإنجليزي من يوتيوب وكيف تزاحم الطلاب كل يريد أداء دور آل باتشينو “شيلوك التاجر المرابي ” وكيف تزاحمت الطالبات كل منهن تريد أداء دور “باتريشيا” وكيف كانت لجنة الديكور تعمل على توفير ديكور الرواية من البيئة المحلية ولجنة الاكسسوار التي كلفتها بالبحث عن “شنب و لحية آل باتشينو” من سوق الشعر في سوق ليبيا غربي أم درمان قبل أن تدمر آلة الحرب “السوق” وتجرف معها “آمال وأحلام الصغار”.
أنا والله جد حزين ورسائل الطلاب لا تنقطع عن هاتفي متسائلين : ” الح-رب ح تقيف متين؟ نحن عايزين نتخرج، عايزين نتخرج ونشتغل نساعد أهلنا.. نحن أهلنا منتظرننا الح-رب دي كان ما وقفت مصيرنا شنو؟”
وليس “المسؤول” عن موعد انتهاء الح-رب في السودان بأعلم من “السائل” فكلها أسئلة مشروعة لكنها بلا إجابات، أسئلة تدمي قلوبنا وتغرس أنصال المواجع في أكبادنا لأننا نقف قليلي الحيلة وبلا إجابات أمام أسئلة الصغار.
الطلاب هم حملة مشاعل النور، أقول لكم أن التعويل عليكم، عليكم أن تقدموا لمجتمعاتكم المحلية عصارة ما تعلمتموه، حذروهم من خطورة الظلم، عززوا قيم السلم والسلام والأمن والأمان في مجتمعاتكم المحلية حيثما كنتم وحيثما نزحتم، شموعكم يجب ألا تنطفئ، يجب أن تكونوا آخر من يأكل وآخر من يشرب وآخر من ينام، خففوا آلام الح-رب والنزوح عن الناس بخدمتهم في توفير المأكل والمشرب والملبس والمأوى، لا تتوانوا في تقديم خبزتكم للآخر أو قطعة ملابس قد تطرد زمهرير البرد من جسد طفل أيا كان لونه أو قبيلته أو جهته، حاربوا العنصرية البغيضة، أجمعوا الناس في الأمسيات ليتشاركوا المعارف والتجارب، تداولوا الكتب وناقشوها وسط مجتمعاتكم المحلية، خففوا عن الأطفال آثار الحرب، نظموا كورسات دراسية مجانية للتلاميذ حتى لا يخرجوا من جو الدراسة فأنتم مؤهلون لذلك وأنشروا ما تعلمتوه وسط الناس فالمجتمع يحتاجكم
مشهد خامس “الح-رب تطحن الغلابة”
غرست الح-رب أنصال مواجعها في أكباد الرجال، موت ومرض وجوع ونزوح وتشرد.
وكل البؤس وقهر الرجال ذاك يا صديقي تجلى في رائعة محسن زايد “المواطن مصري” للمخرج المخضرم صلاح أبوسيف، تلك حدود الفقر والفاقة العليا والتي جعلت “عزت العلايللي” يبيع” ابنه” لشيخ الغفر “عمر الشريف” بدراهم معدودات.
وليلى المغربي كأنها تقرأ المستقبل من استديو كرومة بالإذاعة السودانية سبعينيات القرن الماضي لتحكي عن محمد أحمد السوداني واصفة إياه ب”حليلو الما مات.. الحي ومكفن” و ما أقساه من وصف وما أنداه من صوت.
مشهد سادس “القدال والخير”
والقدال يصف الحال عبر عقد الجلاد “انبليتا..
اختا الرمله ما تقع المكان الهش..
دي الممطورة ما بتبالي من الرش” ..
والخير في حضور ذهني مهيب يجمع البلبلة، و كنا حضور وقتها في استاد التحرير، ويقول “انبلينا” بدلا عن “انبليتا” ليعمم “البلبلة” على الجميع، ذلك قبل ظهور “بل بس”.
مشهد سابع “قيصر الروم ”
” حتي أنت يا بروتس” حرقت تاريخ روما القديمة عندما قالها” قيصر” بعين نصف مفتوحة لمخلصه “بروتس” بعد أن غرس الاخير خنجراً مسموماً في أحشاء الأول . كان ذلك في رائعة شكسبير “يوليوس قيصر” قبل حوالي “2000” سنة، العبارة التي لم تطالها عوامل التعرية اللغوية بل ظلت حاضرة سيفا مسلطا علي أعناق الخونة بكل أعراقهم وأجناسهم وألوانهم وأعمارهم. فبروتس طعن “الثقة ” طعن “العطاء” طعن “الإخلاص” قبل أن يطعن جسد قيصر.
مشهد ثامن “الصحافة ”
لازالت الصحافة، رغم الح-رب، تمثل درع المجتمع الحامي عبر خلق الوعي ضد الشرور في المجتمعات المحلية وكشف ألاعيب الشاشة وتفضح السياسيين الفاسدين والمجرمين المتشددين والأشرار في المجتمعات المحلية التي لا يصل صوتها ذلك عن طريق عمليات الإذاعة عنهم وكشفهم.
مشهد تاسع “ارتحال”
ويبقى الوطن بحضنه المترامي هو المتكأ المريح والملاذ الآمن واللحن المموسق رغم صراع البرهان وحميدتي العبثي الذي يزيد من قناعاتنا يوما بعد يوم أن الديمقراطية والمدنية وأهداف ثورة ديسمبر المجيدة استحقاقات واجبة التنفيذ طال الزمن أو قصر .
مهما تعددت سوح الأسفار ومغرياتها. الكل يوهم النفس بعيش كريم هناك. وتبقى المعادلة ذاتها من طوكيو إلى كاليفورنيا. المعادلة التي تجعل كل الجنسيات سواسية في الارتحال كأسنان المشط “مال كثير وبنون ومن ثم كساء وعشاء ونوم” والنوم مقضوض المضاجع في أسره قد يحف جانبيها ريش النعام.
والوطن هوى وعشق وأسرة وعائلة وأرض وتراب ونيل وخل وفي وحكومة تدخل رأسها في التراب في الملمات كما النعامة تماماً.
تظل تهوى الوطن في الحل والترحال أو كما قال الدكتور مانع سعيد العتيبة في رائعته الحب الذي مات:
كأني ماعرفتك ذات يوم…
ولا مارست حبك كالصلاة…
ويبقى الوطن بعلاقتيه “الحالية والمحلية” كما صنفها أهل البلاغة، و العتيبة يتحدث عن إحداها وأزهري محمد علي يتغلغل في أعماق الأخرى بأن:
شافت ثعالب بي لحى..
وبعض المقالب من جحا…
والرشحوك هم شرحوك…
أكتب كتابك وانسحب…
مشهد عاشر (الأقدار )
“الأقدار تدع لنا الفرصة في أن نسير لكن الى حيث تريد هي” ، عبارة زرعت جدلية التسيير والتخيير بين أئمة الصفين الثاني والثالث و”أدجار الان بو” ساحر فرنسا مثل “نيكولاس كيدج” يمزج الدين بالواقع بالتجربة الحياتية الشخصية.
مشهد حادي عشر (تصادم الأكتاف)
“تصادم الأكتاف” هذه الأيام ليس بسبب الازدحام، إنه التقاتل من أجل العيش ولقمته في ظل حرب متممدة بسقف أخلاقي متدني
“قاع المدينة” يضج بقصص كثيرة وبعضها كما رأيناها في” الحرافيش” و”زقاق المدق” و”نساء صعاليك” لفيفي عبده وسهير رمزي. كيف يتحول “قاع المدينة” إلى “سطح المدينة” ؟ نحتاج إلى تعزيز السلم المجتمعي ونبذ القبلية والعنصرية ونحتاج إلى حراك ثقافي اجتماعي وطوعي يمكن أن يسهم في قلب هذه المعادلة لنبدأ في مرحلة إيقاف” دبابات الح-رب ” و”ح-رب الدبابات ” ونبدأ في تضميد جراحات بلادنا .
مدخل ثاني عشر : (الضمير الكوز)
“أسوأ ما في الحياة أن يموت شيء ما داخل الإنسان وهو ما زال حياً، الضمير أعني” .
اختلف القرّاء حول نسبها هل هي لفكتور هوجو أم لبيكاسو . وبيكاسو الذي زعزع باكات الفنانين عندما قال إن “الإبداع يبدأ بالتأمل” نسى أن يضيف لذات الفنانين أن “كثرة التأمل قد تقود إلى الجنون”. ويبقى” الضمير ” هو الضابط الأخلاقي الغائب في ح-رب الخرطوم.
مدخل ثالث عشر : (صمت الحملان)
” المشاهدة” خاصية يتمتع بها كل شخص، أما “المشاهدة والملاحظة” فيتمتع به عدد قليل نوعاً ما من البشر، وأما “المشاهدة والملاحظة والاختزال والاستدعاء” فهي ما تميز الفنان رساماً كان أو ممثلا أو غيره عن بقية بني جلدته . إذن هي رباعية أهل الفن وانتوني هوبكنز يدخل البلاتوه بدون سكريبت ليمثل مشاهد فيلمه” صمت الحملان” . “الحملان” التي ستحرم منها موائد الغد “صمتت” وقتها لتمنح البريطاني الأنيق أرفع جائزة سينمائية في العالم” أوسكار أفضل ممثل”.
وسألت الصحفية انتوني هوبكنز : كيف تحفظ سيناريو فيلم كامل يمتد تصويره لأشهر ستة وتذهب إلى البلاتوه بدون ورقة حتى؟
أجاب هوبكنز وقتها : عمري الآن “75” عاما، لكني لازلت أداوم على الرياضة الصباحية بعدها أقرأ ما لا يقل عن “70” بيت شعر يوميا مع شرحها وتفسيرها
مشهد رابع عشر (وصايا النبوة)
من وصايا النبوة إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة والناس نيام. نحن شعب محب للخير ويعلي قيم التكافل والإخاء والتعاون والتجرد والعطاء.
كونوا عوناً وسنداً للفقراء والمحتاجين في ظل هذه الح-رب اللعينة. افضل الصدقة ما كانت من معسر لمعسر
و والله ما نقص مال من صدقة
وكل عام وأنتم بخير