
العودة إلى أرض المحنة.. فرحة انتصار ودموع لقاء
انها مدني التي سكنت قلب كل سوداني ولم تكن رحلة النزوح من ولاية الجزيرة التي عشقناها مجرد مغادرةٍ اضطرارية، بل كانت اقتلاعًا من الجذور، وسنوات من المعاناة والألم في الغربة القسرية. لكن اليوم، بعد انتصار الجيش الوطني ودحر مليشيا الدعم السريع، بدأت القلوب تعود إلى موطنها، إلى الأرض التي احتضنتهم يومًا وأصبحت حلم العودة المقدس والطريق إلى الوطن و دموع الفرح وحنين المسافات الطويلة اقتصرتها لحظة فرح بالعودة مع أغنية انا روحي ليه مشتهية ود مدني..
وانا انظر وتأمل في وجوه المسافرين العائدين أثناء تغطيتي لوداع الفوج الاول لمشاهد العودة من ولايات النزوح كانت كأنها لقطات من فيلم إنساني تختلط فيه الدموع بالابتسامات. بصاتٌ تمتلئ بالمسافرين، وجوه أنهكها التعب لكنها تضيء بشوق السنين. نساء يزغردن فرحًا، وأطفال يصرخون بحماسة: “راجعين”، وكبار في السن يرفعون أكف الدعاء شاكرين الله على هذه اللحظة التي ظن كثيرون منهم انها لن تتحقق بأن يعودوا إلى ديارهم
عند انطلاق البصات كان المشهد مهيبًا. عائلات تحمل حقائب صغيرة لكنها تحمل في داخلها كل ذكريات النزوح، وكل ما استطاعت أن تنقذه من رماد الحرب. وبينما كانت العجلات تدور، كانت العيون تراقب الطريق بشغف، تنتظر أن تلوح في الأفق معالم “أرض المحنة”، حيث كانت الحياة قبل الحرب، وحيث ستبدأ من جديد.
لم تكن الجزيرة يومًا مجرد ولاية بل كانت القلب والروح والحسد، بل كانت وما زالت قلب السودان النابض، الذي يحتضن الجميع بلا تفرقة بل كانت الحضن الذي يخون رغم ما أصابها من دمار، بقيت شامخة، تنتظر أبناءها ليعيدوا إليها الحياة. حين وصلت الحافلات، اختلطت المشاعر، بكاءٌ على الأحبة الذين رحلوا، وفرحةٌ باللقاء مع الأرض التي لم تفقد عطرها رغم سنوات النزوح.
في الأسواق، الشوارع، الأحياء، كان المشهد مؤثرًا؛ جيران يلتقون بعد غياب، أيادٍ تتصافح بحرارة، وأصوات تردد: “حمداً لله على السلامة”. حتى الجدران بدت وكأنها تهمس لمن عادوا: “لقد اشتقت لكم”.
الشكر لمن احتضننا لن ننسى جميلكم ولن ننسى الأمان الذي منحتوه إلينا فشكرا جزيلاً والي ولاية البحر الأحمر الفريق الركن مصطفى محمد نور وأركان حربه وأهل ولايته الذين وقفو مع أهل الجزيرة بالكلمة الطيبه اولاً ثم بالمأوى، هكذا اهل السودان وفي لوحة مهيبة وسط هذا الفرح الغامر، لم ينسَ العائدون من قدم لهم المأوى حين شردتهم الحرب. رسائل الشكر والامتنان تفيض من القلوب، إلى أهل الولايات التي استضافتهم، إلى من فتحوا بيوتهم، وشاركوا طعامهم، ومسحوا دموع المنكوبين. “لم نشعر أننا غرباء، لكن القلب لا يعرف إلا موطنه”، هكذا قال أحد العائدين، وهو يترجل من البص، يقبّل تراب الجزيرة وكأنه وجد روحه التي ضاعت في زحام النزوح.
يحدونا الأمل لبداية جديدة ونقول بأن الأمل لا يموت رغم الخراب الذي تركته الحرب، فإن إرادة الحياة أقوى، فالعائدون لم يأتوا فارغي الأيدي، بل جاؤوا بعزيمة إعادة البناء، بإيمانٍ بأن الجزيرة ستنهض من جديد. وكما صمدوا في النزوح، سيصمدون في سبيل الإعمار، ليعودوا أقوى مما كانوا، ولتظل الجزيرة دائمًا وأبدًا، أرض المحنة، وأرض الكرامة، وأرض الحياة.