
*انطباعات من زيارتي إلى الخرطوم: بعد عامين من الحرب*
*بداية الرحلة*
كان اليوم الذي انطلقت فيه رحلتي إلى الخرطوم مفعمًا بمشاعر مختلطة. عشت قرابة عامين من الحرب، بعيدًا عن تلك الأرض التي لم أكن أتخيل يومًا أن أراها في حالة كهذه. كانت المهمة التي تم اختيارنا لها كإعلاميين هي نقل الحقيقة، عكس ما تم من تحرير في *مصفاة الجيلي*، وحملنا على عاتقنا همًّا أكبر، هو أن نوصل للناس صورة حية عما يجري على الأرض.
*لحظة الوصول*
عند وصولنا إلى *قاعدة وادي سيدنا العسكرية*، كان الحماس يملأ الأجواء. فور نزولنا من الطائرة، توجهنا بسرعة إلى الباص الذي سينقلنا إلى ولاية الخرطوم، نحو *بحري* تحديدًا. في تلك اللحظات، شعرت بشيء غريب يسكنني، كان بمثابة الارتياح لمجرد رؤيتهم، هؤلاء القادة العسكريين الذين استقبلونا بابتسامات لا تخلو من جدية. شعرت بالطمأنينة، وكان شعورًا عميقًا أن هؤلاء الرجال، الذين لم يدعهم الواجب أن يلتقوا بأسرهم أو يستمتعوا بمتاع الدنيا، كانوا على استعداد تام ليحاربوا من أجلنا. هؤلاء هم من يدافعون عن *وطننا*، وهذا ما جعلني أشعر بالثقة، باليقين التام أن *السودان* محمي بأيدٍ أمينة.
*أولى المحطات*
وصلنا إلى *مركز الشهيد عثمان مكاوي*، وكان هذا المركز متميزًا بالفعل. فبالرغم من ظروف الحرب، كان المرفق بأحدث المواصفات العالمية، وحظي بإدارة إعلامية رائعة تضم أكفأ الإعلاميين العسكريين. شعرت أن هذا المركز سيكون له دور كبير في المرحلة القادمة، في نشر الحقائق وتصحيح المفاهيم، خاصة في ظل الحرب الإعلامية التي تخوضها *المليشيات* عبر الشائعات.
*المحطة الثانية*
لكن حين توجهنا إلى *بحري*، كانت الصورة مختلفة تمامًا. عند وصولنا، كان الجميع يراقب من نوافذ الباص، متسائلين بدهشة عن مدى الدمار الذي لحق بهذه المدينة. كان منظر *بحري*، خصوصًا منطقة *الحلفايا*، مؤلمًا بشكل لا يوصف. لم تعد رائحة النيل كما عهدناها، لا تلك الرائحة الزكية التي كانت تملأ الأنوف، ولا صخب السيارات أو ضحكات الأطفال، ولا تلك الجلسات التي كانت تجمع الأصدقاء والأسر على جوانب الطرق.
كان *دمارًا* في كل مكان، مباني مهدمة، وشوارع خالية، وكأن الزمن توقف. بدت المدينة وكأنها قُتلت في عيوننا. لم تعد هناك روح المكان، تلك الروح التي كانت تعبر عن حياة مليئة بالأمل، والآن أصبحت الخراب هو ما يملأ الأفق.
ولكن كانت *مصفاة الجيلي*، التي تقع شمال بحري، هي المحطة الأكثر تأثيرًا في هذه الرحلة. عندما وصلنا إلى المصفاة بعد جهد طويل، شعرت بفرحة عميقة وأنا أرى هذا الصرح الحيوي يتم تحريره بعد معاناة شديدة. *مصفاة الجيلي* ليست مجرد منشأة اقتصادية مهمة بالنسبة للسودان، بل هي رمز للاستقرار والنهوض. عندما تم تحريرها، كانت لحظة فارقة، ليس فقط من الناحية العسكرية ولكن من الناحية الإنسانية أيضًا. شعرت بأمل جديد في قدرتنا على استعادة ما فقدناه، واستعادة الحياة لهذه الأرض التي طالما كانت محطًا للأمل والعمل.
*ختامًا*
رحلتي إلى الخرطوم كانت مليئة بالانطباعات الإنسانية العميقة، فهي لم تكن مجرد زيارة صحفية، بل كانت لحظة صادمة، ولكنها أيضًا لحظة تَذكّر للقوة والصلابة التي تتمتع بها *السودان*. الخرطوم قد تكون مدمرة، لكنها ليست مكسورة، بل لا تزال تحمل في قلبها أملًا، وكلما شاهدت تلك الوجوه الجادة التي استقبلتنا في *قاعدة وادي سيدنا* أو تلك التي تعمل في *مركز الشهيد مكاوي*، أدركت أننا نمتلك القوة للإصلاح، لإعادة بناء وطننا.
على الرغم من الحزن الذي خلفته الحرب في قلوبنا، إلا أن هذه الزيارة منحتني الأمل في مستقبل أفضل، لأن الإرادة الحقيقية في هذا الوطن أقوى من أي دمار.